وضع داكن
25-11-2024
Logo
سيرة التابعين : 01 - التابعي عطاء بن أبي رباح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

ما هي الغاية من دراسة سير الصحابة والتابعين ؟

 أيها الأخوة المؤمنون، في الدروس السابقة كان الموضوع حَول أصحاب رسول الله رِضْوان الله تعالى عليهم أجمعين، واليوم ندخل في موضوع جديد، وهو سِيَرُ التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم أجمعين، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:

((بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا حَتَّى كُنْتُ مِنْ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ))

[أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة]

 نحن بِشَهادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع عَدَدٍ كبير من التابعين الأجِلاَّء الذين اقْتفَوا أثر النبي عليه الصلاة والسلام، وأثرَ أصحابه الكرام، وتابِعِيّ اليوم عطاء بن أبي رباح، فقد قيلَ عنه:

((ما رأيتُ أحدًا يريد بالعِلم وجْه الله عز وجل غير هؤلاء الثلاثة: عَطَاء وطاووسُ ومجاهد))

 أيها الأخوة الكرام, تَذْكير سريع لِحِكمة تَدريس سِيَر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسِيَرِ التابعين رِضْوان الله تعالى عليهم أجمعين .
 كُلّكم يعلم أنَّ الإسلام عقيدة، وعبادة، ومُعاملة، وخُلُق، وأنَّ المسلم إذا وُضِعَت أمامه هذه الحقائق، وتِلْك الأحكام فلا شكَّ أنَّهُ يتأثَّر بها أشدَّ التأثُّر، إلا أنَّه إذا رأى بِأُمّ عَيْنَيْه الإسلامَ مُجَسَّدًا في شخْص، فهذا الشَّخص الذي يحملُ بين جوانِحِهِ مشاعر المسلم، ويتحرَّك في حياتِهِ وِفْق منهج المسلم لهُوَ أبْلَغُ ألف مرَّة من أيَّة محاضرةٍ نظريَّة تُلقى عن الإسلام، وهذا لِسَبَبٍ بسيط، وهو أنَّ القصَّة فيها حقيقة مع البرهان عليها، أنت أمام شخصٍ امْتلأَ عقلهُ بالعلم، وامْتَلأَ قلبهُ بالحُبّ، وتحرَّكَ في سُلوكِهِ وِفْق منهجٍ دقيق، هذا الشَّخص حجَّةٌ عليك، أما إذا بَقِيَ الإسلامُ فِكْرًا، وثقافةً، وبَقِيَ الدِّين أحكامًا شرعِيَّةً، فربَّمَا لا يفْعَلُ فِعْلَهُ في الناس، كما لو تَلَوْتَ على مسامِعِهِم قصَّةَ إنسان تمثَّلَ هذا الدِّينَ بِكُلّ إمكاناتهِ .
 من هو التابعي الجليل الذي كان يستفتيه سليمان بن عبد الملك في مناسك الحج, وما هي صفاته الخَلقية كما ذكره الذاكرون, وبماذا نصح سليمان ابنه؟
 هذا التابعِيّ الجليل كان مُعاصِرًا لِلخليفة الأمَوِيّ سُلَيمان بن عبد الملك، الذي يقول عنه المؤرِّخون: إنّهُ خليفة المسلمين، وأعْظمُ مُلوك الأرض .
 سُليمان بن عبد الملِك يُؤدِّي فريضة الحجّ، وهو في بيت الله الحرام, حاسِرَ الرأس، حافِيَ القدَمَيْن، ليس عليه إلا إزارُهُ، ورداء، شأنُهُ كَشَأن أيّ حاجٍّ من المسلمين، ومن خلْفِهِ ولداهُ، وهما غلامان كَطَلْعَة البدْر بهاءً، وكأكْمام الورْد نظارةً وطيبًا، وما إن انتهى خليفة المسلمين، وأعظمُ مُلوك الأرض من الطَّواف حول البيت العتيق، حتى مالَ على رجلٍ من خاصَّتِهِ، وقال:( أيْن صاحبكم؟ فقال: إنَّهُ هناك قائمٌ يُصَلِّي، فاتَّجَهَ الخليفة، ومن ورائهِ ولداهُ إلى حيثُ أُشير إليه، وهمَّ رِجال الحاشِيَة أنْ يتْبعوا الخليفةَ لِيَفْتحوا له الطريق، ويدْفَعُوا عنه أذى الزِّحام، فثنّاهم، وقال: هذا مقامٌ يسْتوي فيه الملوك والسُّوقَةُ, يسْتوي فيه الحاكمُ والمحكوم، والقويّ والضعيف، والفقير والغنيّ .
 -والآن الإنسان إذا ذهَبَ إلى الحجّ, وكان من أغنى أغنياء الأرض، وجلسَ في أفْخَر فندقٍ هناك ، فلا يستطيعُ أن يطوفَ مع عامَّة المسلمين، شأْنُ الحجّ وخصائصُهُ تقتضي أن يكون الحُجَّاج سَواسِيَةً مهما علا بعضهم على بعض- .
 يقول هذا الخليفة: ولا يفْضُل فيه أحدٌ على أحد إلا بالقَبُول والتَّقوى، ورُبّ أشْعَثَ أغبر قَبِلَ على الله فتقبَّلَهُ بِمَا لمْ يتقبَّل به المُلوك، ورُبَّ أشْعثَ أغبر قدم على الله في بيته الحرام، فقَبِلَهُ اللهُ بما لمْ يتقبّل به الملوك .
 ثمَّ مضى هذا الخليفة نحو هذا الرجل، فوجدَهُ لا يزال في صلاته، غارقًا في ركوعِهِ وسُجودهِ، والناس جُلوسٌ وراءهُ، وعن يمينه وشمالهِ، فجلسَ الخليفة حيث انتهى به المجلس، وجلس معه ولداهُ، وطفِقَ الفتيان القرشِيَّان يتأمَّلان ذلك الرجل الذي قصَدَهُ أمير المؤمنين، وجلسَ مع عامَّة الناس ينتظرُ فراغهُ من صلاتهِ, مَن هو هذا الرَّجل؟ قال: فإذا به شَيْخٌ حبَشِيّ، أسْوَدُ البشَرَة، مُفَلْفَلُ الشَّعْر، أفْطَسُ الأنف، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْوَد, ولمَّا انتهى الرجل من صلاتهِ مال بِشِقِّه على الجِهَةِ التي فيها الخليفة، فحيَّاهُ سليمان بن عبد الملِك، فرَدَّ التَّحِيَّة بِمِثلها، وهنا أقْبَلَ عليه الخليفة، وجعلَ يسْألهُ عن مناسِك الحجّ, مَنْسَكًا منْسكًا، وهو يفيضُ بالإجابة عن كلّ مسْألة، ويُفصِّلُ القَوْل فيها تفْصيلاً، لا يدَعُ سبيلاً لِمُسْتزيد، ويُسْنِدُ كلَّ قَوْلٍ يقولهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولمّا انتهى الخليفة من مُساءلَتِهِ جزَّاهُ خَيْرًا؛ أيْ قال له: جزاكَ الله خَيْرًا، وقال لِوَلدَيْه : قومَا ‍فَقامَا، وقام الثلاثة نحوَ المسْعى، وفيما هم في طريقهم إلى المسْعى بين الصَّفا والمروَة سمِعَ الفتَيان من يقول: يا معْشَرَ المسْلمين, لا يُفْتِي الناسَ في هذا المقام إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لمْ يوجَد فَعَبْدُ الله بن أبي نجِيح، فالْتَفَتَ أحدُ الغلامَيْن إلى أبيهِ، وقال: كيف يأْمُر عامِلُ أمير المؤمنين الناس بِأَن لا يسْتفْتُوا أحدًا إلا عطاء بن أبي رباح وصاحِبِهِ، ثمَّ جئنَا نحن نسْتفتي هذا الرجل الذي لم يأْبَه للخليفة، ولمْ يُوَفِّهِ حقَّهُ من التَّعظيم؟‍ .
 -الآن اسْتمعوا ما قاله سليمان- فقال سليمان لِوَلدِهِ: هذا الذي رأيْتَهُ يا بنيّ، ورأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه هو عَطاء بن أبي رباح, هو نفسهُ صاحبُ الفتيا في المسجد الحرام, ووارِث عبد الله بن عبَّاس, -يعني خليفة عبد الله بن عبَّاس، الصحابيّ الجليل الذي أوتِيَ فهْمًا في القرآن الكريم، وكان مَوْسوعةً في كلّ العُلوم- ثمَّ أرْدَفَ يقول: يا بنيّ، تَعَلّم العِلْم، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع، وينْبُهُ الخامِل ، ويَعْلو الأرِقَّاء على مراتب المُلوك) .
 ولذلك حينما قِيل: رُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب، ليس في هذا مُبالغة إطلاقًا، فرُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب، تعلَّموا العِلم، فإنْ كنتُم سادةً فُقْتُم، أيْ تَفَوَّقْتُم، وإن كنتم وسطًا سُدْتُم، أيْ أصبحْتُم سادةً، وإن كنتم سُوقةً عِشْتُم، أيْ عِشْتُم ‍بالعلم .

 

كيف كان وضع عطاء الاجتماعي, وكيف قسم وقته , على يد من أخذ العلم

 قال: (كان عَبْدًا ممْلوكًا لامرأةٍ من أهل مكّة، -وهذه حِكمة، فقد تكون أنت في أدْنى سلّم المجتمع، في الطبقة الدنيا، لا يعرفك أحد، الأب مُتَوَفَّى، والأم فقيرة، جاهلة, وأنت في هذا البيت ، فإذا تعلَّمْتَ العِلْم، وصَلْتَ إلى العَلْياء- كان عطاء بن رباح عبْدًا ممْلوكًا لامرأةٍ من أهْل مكَّة، غير أنَّ الله عزّ وجل أكْرمَ الغُلام الحبشيّ بِأَنْ وضَعَ قدَمَيْه مُنْذ نُعومة أظفارهِ في طريق العِلْم، -وَواللهِ الذي لا إله إلا هو لا أغْبِطُ أحدًا إلا شابًّا صغيرًا نشأ في طاعة الله, شيءٌ ثمينٌ جدًّا أن تكون في مقْتَبَل العُمر، تتلقَّى العلْم، وتُغذِّي عقْلَكَ بالعلم، وتُغذِّي قلْبكَ بالحبّ، وتتَّبِعُ منْهجَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فإذا كنتَ شابًّا، وهذه هي حالُك، فكيف إذا صِرْتَ شيْخًا؟ من لمْ تكُن لهُ بِدايةٌ مُحْرقَةٌ، لمْ تكن لهُ نِهايةٌ مُشْرقة، والأمر بين أيديكم، الإله هو الإله، ربّ محمَّدٍ وأصحاب محمّد هو ربُّنا، وإلههُم إلهُنا، فالحقائق واحدة، والظروف واحدة، والمعطيات واحدة، والفرَصُ واحدة، وبإمكانك أن تكون بطَلاً في أيّ عَصْر، كُنْ طَموحًا بالآخرة، حبَشِيّ مملوك لامرأة من قريش، يقفُ أمامهُ خليفة المسلمين، ويقول له: يا بنيّ، هل رأيتَ ذلَّنَا بيْن يدَيْه؟ عبْدٌ حبشي، أسْودُ البشَرة، مُفَلْفَلُ الشَّعر، أفْطسُ الأنف، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْود, قال له: هل رأيتَ ذلَّنَا بين يديه؟ هذا هو العلم- .
 هذا العَبْدُ الأسْود الممْلوك لامرأة من قريش، قسَّمَ وقْتَهُ ثلاثة أقْسام، -وهذا يهمُّنا كثيرًا، وأنا أتمنَّى عليكم أنْ تُنظِّموا أوقاتكم؛ وقْتٌ للعمل مِن أجل أن تأكل، ووقْتٌ من أجل أن تعبدَ الله عز وجل، ووقْتٌ من أجل أن تطلبَ العِلم، ولا تسْمَح لِجانِبٍ من حياتِكَ أن يطْغى على جانبٍ آخر ، وإلا ندمتَ أشَدّ النَّدَم، ولا تسْمح لِعَمَلِكَ أن يأخذ جلَّ وقْتك .
 إذًا: أنت لا تعيش، ولم تعرف حقيقة الحياة، ولا تسْمح لِعَمَلِك أن يحْتَوِيَ كلّ وقْتك، ولا تسْمح لِعِبادتِكَ أن تُنْسيكَ عملكَ الذي ترْتَزِقُ منه، وازِنْ بين عبادتك، وبين عملكَ، وبين طلبِ العلم، فيجب أن نُنَظِّمَ أوْقاتنا- .
 جعَلَ قِسْمًا من وقْتِهِ لِسَيِّدَتِهِ، يخْدمها أحسنَ ما تكون الخدمة، ويؤدِّي لها حُقوقها عليه أكْمَلَ ما تؤدَّى الحقوق، وجَعَلَ قِسْمًا من وقْتِهِ لِرَبِّه، يفْرُغُ فيه لِعِبادتِهِ، أصْفى ما تكون العبادة، وأخلصَها لله عز وجل، وجعلَ قِسْمًا ثالثًا لِطَلب العلم، حيث أقْبلَ على منْ بقِيَ حيًّا من أصْحاب رسول الله، وطفِقَ ينْهَلُ من مناهلِهم الثَّريّة الصافيَة، فأخذ عن كبار الصحابة كأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم رِضْوان الله تعالى عنهم، حتى امتلأَ صدره علمًا وفقْهًا وروايةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
 ولمَّا رأتْ السيّدة المكيّة أنّ غلامها قد باعَ نفسهُ لله، ووقفَ حياتهُ على طلب العلم، تخلَّتْ عن حقِّها فيه، وأعْتَقَتْ رقبَتَهُ تقَرُّبًا لله عز وجل))

 الحقيقة أيّها الأخوة، إنَّهُ من طلبَ العِلْم تكفَّلَ الله له بِرِزْقِهِ، وهذه الحقيقة جعلَتْ من أبي حنيفة أبَا حنيفة العالم الكبير, أنا لا أقول لكم: إنَّك إذا طلبْتَ العِلْم تجِدُ المال تحت الوِسادة, ولكنَّ الله عز وجل يُيَسِّر لك عملاً وقْتُهُ معقول، ودخْلهُ معقول، ويسْمحُ لك هذا العمل أن تطلب العلم، ويستحيل أن تطلب العلم، ويجعلك الله تحت عملٍ يمتصّ كلّ وقتك, فمن طلبَ العِلْم تكفَّلَ الله له بِرِزْقِهِ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

 وقال أيضا:

((إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ))

[أخرجه الدارمي في سننه]

إليكم منزلته العلمية, وكيف وصل إليها ؟

 حينما أعْتَقَتْهُ سيّدتَهُ اتّخذ عطاءٌ من بيت الله الحرام مُقامًا له، فجعلَهُ دارهُ التي يأْوي إليها، ومدرستَهُ التي يتعلَّمُ فيها، ومُصلاّهُ الذي يتقرَّب إلى الله تعالى فيه، حتى قال بعض المؤرِّخين: كان المسجد الحرام فِراشَ عطاءِ بن أبي رباح نحْوًا من عشرين عامًا, أنتَ انظُر أيَّ مكانٍ ترتاح فيه؟ المؤمن في المسجد كالسَّمَك في الماء، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص, أين ترتاح؟ .
 وقد بلغَ هذا التابعيّ الجليل منْزلةً من العِلْم فاقَتْ كلَّ تَقْدير، وسمَا إلى منزلةٍ لمْ يَنَلْها إلا نفرٌ قليل، فقد رُوِيَ أنَّ عبْد الله بن عمر رضي الله عنهما أمَّ مكَّة معْتَمِرًا، فأَقْبَلَ الناس عليه يسألونهُ ويسْتفْتونَهُ، فقال:

((إنِّي لأعْجبُ لكم يا أهْل مكَّةَ، أتَجْتمِعون عليّ لِتَسْألوني عن أسئلةٍ كثيرة ، وفيكم عطاء بن أبي رباح؟))

 صحابيّ يرى أنَّ عطاء بن أبي رباح أشدُّ علْمًا منه .
 وصَلَ هذا التابعيّ الجليل إلى ما وصَلَ إليه مِن عُلُوّ في مقامه، ومن رُتبةٍ عاليَةٍ في علْمِه، بِخَصْلَتَيْن اثْنَتَيْن؛ الأولى أنَّهُ أحْكَمَ سلْطانهُ على نفْسِهِ، فلَمْ يدَعْ لها سبيلاً في أنْ ترْتَعَ فيما لا نفْعَ له، وأنا أعْتقدُ أنَّ أخواننا الكرام، ورُوَّاد هذا المسجد، وطُلاَّب العلم الشريف، يسْتحيلُ أن يُفكِّر الواحد بِعَمَلٍ فيه معْصِيَة، وهذا حُسْن ظنِّي بكم، ولكن بَقِيَ كيف تتفاوَتون الآن؟ في ألاَّ يدعَ أحدُكم وقْتًا يمْضي بلا فائدة، فَنَحْن نتفاوَت في الاستفادة من كلّ دقيقةٍ من حياتنا، أحيانًا سهْرة لا طائِلَ منها، وجلْسة غير مُجْدِيَة، حديث فارغ، وموضوع سخيف، إنَّ الله يُحِبّ مَعالِيَ الأُمور، ويكْرهُ سَفْسافَها ودَنِيَّها، طبْعًا جميعُ المؤمنين في الأعمّ الأغلب لا يعْصون الله عز وجل، بلغُوا مرْتبةً أعلى من أنْ يعْصُوا ربَّهم، تجاوَزُوا هذه المرحلة، فكيف يتفاوتون الآن؟ وكيف يتمايَزون؟ وكيف يتسابقون؟ في اسْتغلال أوقات الفراغ؛ طلبُ علْمٍ، وقراءة القرآن، ودعوةٌ إلى الله تعالى، أمْرٌ بالمعروف، ونهْيٌ عن المنكر، إصْلاحُ ذات البيْن .
 الخصْلة الثانِيَة؛ أنَّهُ أحْكمَ سُلطانهُ على وقْتِهِ، فلمْ يهْدرهُ في فضول الكلام والعمل, فلمْ يسْمح لِنَفْسِهِ أن يُمضِيَ وقتًا في ما لا طائِلَ منه .

 

ما هي النصيحة التي نصح بها عطاء محمد بن سوقة وحدث بها من حدث ؟

 حدّثَ محمَّدُ بنُ سُوقَة جماعةً من زُوَّارِهِ، قال:

((ألا سْمِعُكم حديثًا لعلَّهُ ينفعكم كما نفعَني؟ فقالوا: بلى‍، قال: نصَحَني عطاء بن أبي رباح ذاتَ يومٍ، وقال: يا ابْنَ أخي، إنَّ الذين من قبلنا كانوا يكرهون فُضول الكلام، قلْتُ: وما فُضول الكلام عندهم؟ قال: كانوا يَعُدُّون كلّ كلامٍ فُضولاً ما عدا كتاب الله عز وجل أن يُقرأ، وأن يُفْهم، قال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾

[ سورة المؤمنون الآية: 3]

 -قال المفسِّرون: كلّ ما سِوى الله تعالى لَغْوٌ، فأنت إن جَلسْتَ جلسةً فانْتَبِه، لأنّ المؤمن الصادق لا يتكلَّم كلمةً إلا إذا كان لها معنى عميق، يفسِّر آية، يشْرح حديثًا، يبيِّنُ حكمًا شرعِيًّا، يبيِّنُ عظمة الله تعالى في الخلْق، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، لا يوجد عندهُ كلام فارغ، الكلام اللَّغو، والموضوعات السَّخيفة، والمبتذلة, والمسْتهلكة، واسْتِماعٌ إلى قصَّة لا طائل منها، وغيبة، مسْتحيل، هذا من صفات المؤمن الصادق، يضْبطُ لِسانَهُ في أعلى درجات الضَّبْط- .
 قال: كانوا يَعُدُّون كلّ كلامٍ فُضولاً ما عدا كتاب الله عز وجل أن يُقرأ، وأن يُفْهم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يُرْوى أو يُدْرى، أو أمْرًا بِمَعْروف، أو نهْيًا عن منكرٍ ، أو علْمًا يُتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى، أو أن تتكلَّم بِحاجتِكَ ومعيشتِكَ التي لا بدّ منها- تبْحث عن زوجة, هذا عمل مشروع، تبحثُ عن عملٍ، تؤمِّنُ طعامَ أولادك، تُزَوِّجُ أولادك، هذه حاجة أساسيَّة ومشْروعة، ولك فيها حاجة، وفيها امْتِثال لِقَول الله عز وجل:

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾

[ سورة المائدة الآية: 2]

 ثمَّ حدَّق إلى وجهي، وقال: أَتُنْكِرون قوله تعالى:

﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾

[ سورة الانفطار الآية: 10-11]

 - الإنسان أحيانًا يَغْفل أنَّ له ملكان يكْتُبان عنه كلّ شيءٍ, قال تعالى:

﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾

[سورة الانفطار الآية: 10-11]

 أَتُنْكرون قوله تعالى:

﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾

[ سورة ق الآية: 18]

 ثمَّ قال: أما يسْتحي أحدُنا لو نُشِرَتْ عليه صحيفَتُهُ التي أمْلاها صَدْر نهارِهِ، ووجدَ أكْثرَ ما فيها ليس من أمْرِ دينه، ولا مِن أمْر دُنياه، -من هؤلاء الذين انتفَعُوا بِعَطاء بن أبي رباح؟- قال: انْتَفَعَ به أهل العِلم المتخَصِّصون، وأربابُ الصِّناعة المحترفون، وأقوامٌ كثيرون غير هؤلاء).

مواقف وعبر :

 حدَّث الإمام أبو حنيفة النعمان عن نفسهِ, فقال: (-طبْعًا هذه قصَّة قد تسْتغرِبونها، وأنا أسْتغْربُها معكم، إلا أنَّها ليْسَت مستحيلة الوُقوع، لأنَّ الإنسان أحيانًا قد يُتقنُ المعلومات النَّظريَّة، ولكن في حيِّز التطبيق قد يضْطرب- أخْطأْتُ في خمسة أبواب من المناسك بِمكَّة، فَعَلَّمَنيها حجَّام، -أي حلاَّق، والإنسان إذا حجَّ أوَّل مرَّة تجدُه قد قرأ كُتُبًا كثيرة، واسْتمعَ إلى دروس علْم كثيرة في مناسك الحجّ، يضطرب وينْسى أن يُهَرْوِل، ينْسى أن يضطبِع، يبدأُ من اليسار، وقد يقعُ في أخطاءٍ كثيرة، وهذه لا تقدحُ في مكانتِهِ، لأنَّ النَّظري شيء، والعملي شيءٌ آخر- .
 قال أبو حنيفة بن النعمان: أخْطأْتُ في خمسة أبواب من المناسك بِمكَّة، فَعَلَّمَنيها حجَّام ، وذلك أنَّني أردْتُ أن أحْلِقَ لأَخْرجَ من الإحرام، فأتَيْتُ حلاَّقًا، وقلتُ: بِكَم تحْلق لي رأسي؟ فقال الحجَّامُ: هداكَ الله، النُّسُك لا يُشارطُ عليه، اِجْلس ثمَّ ادْفع ما تريد، وكانت هذه مخالفة، لأنّ النُّسُك لا يُشارط عليه، ولا يُساوَم، قال: فَخَجِلْتُ وجلسْتُ، غير أنَّنِي جلسْتُ منحرفًا عن القِبْلة، فأَوْمَأ إليّ بِأنْ اسْتقبِلِ القِبْلة، ففعلْتُ وازْدَدْتُ خجلاً على خجلي، ثمّ أعْطيتُهُ رأسي من جانبي الأيْسَر لِيَحْلقهُ، فقال: أدِرْ شِقَّك الأيْمن، فأَدَرْتُهُ، وجعَلَ يحْلِقُ رأسي، وأنا ساكتٌ أنظر إليه، وأعْجبُ منه! فقال لي : ما لي أراك ساكتًا؟ كَبِّرْ، فجَعَلْتُ أُكبِّر حتى قُمْتُ لأَذْهب، فقال: أين تريد؟ فقلتُ: أريد أن أمضي إلى رحلي، فقال: صلِّ ركْعتين ثمَّ امْضِ إلى حيثُ تشاء .
 -هذه قصَّة مرْوِيَّة عن أبي حنيفة النّعمان، فيمْكن أن يتلقَّى المسلم العِلْم عن الحجّ بِشَكلٍ دقيق جدًّا، ثم يذهب ليحجَّ، فيقعُ في أخطاءٍ كثيرة جدًّا، لذلك فإنّ المُمارس كما يقولون سبَقَ الفارس، المعلومات النَّظريَّة شيء، والعمل شيء آخر- .
 قال: فصلَّيْتُ ركْعتين، وقلتُ في نفسي: ما ينبغي أن يقعَ مثلُ هذا مِن حجَّام، -ما هذا الحجَّام؟ خمسة أخطاءٍ صحَّحَها لأبي حنيفة, شيخُ الفقهاء, قال: لا يقعُ هذا مِن حجَّامٍ إلا إذا كان ذا علْمٍ- فقلْتُ له: مِن أيْنَ لك ما أمرْتني به من المناسك؟ فقال: لله أنت، لقد رأيْت عطاء بن أبي رباح يفعلُهُ، فأخذْتُ عنه، ووجَّهْتُ الناس إليه، فكان الحجّام تلميذَ عطاء بن أبي رباح) .
 الحقيقة أنَّ شيئًا في الإسلام عجيبًا، الحياة تقتضي العمل، فهذا يعمل في الطعام, خضري، أو سمَّان مثلاً، وهذا بنَّاء، وذاك قصَّاب، لكنَّ رَوعة الإسلام أنَّ أصْحاب الحِرَف إن كان لهم مجْلسُ علْمٍ فهم علماء، تجد كلامًا دقيقًا، وحكمًا صحيحًا، وإدراكًا، وهذا شيءٌ يُلفِتُ النَّظر، وهو إنسانٌ عادي له عمل، ولكن لأنَّ لهُ مجلسَ علْمٍ يتلقَّى العِلْم أسْبوعيًّا أصبح هذا على طريق العلماء، تجدُ إنسانًا له عمل، وهو في نظر الناس عادي، لكن حينما يتكلّم يتكلّم بالحكمة، ويقف الموقف المناسب، ويتصرَّف بحِكمة بالغة، وهذه هي آثار مجالس العلم .

كيف تعامل عطاء بن أبي رباح مع الدنيا ؟

 أقْبلَت الدنيا على عطاء بن أبي رباح، فأعْرض عنها أشدّ الإعراض، وأباها أشدّ الإباء، وعاش عمرهُ كلَّه يلبسُ قميصًا لا يزيدُ ثمنهُ عن خمسة دراهم، ولقد دعاهُ الخلفاء إلى مصاحبتهم، فلم يَجِب دعوتهم لِخَشْيَتِهِ على دينِهِ من دُنياهم، لكنَّهُ مع ذلك كان يَثِبُ عليهم إذا وجدَ في ذلك فائدةً للمسلمين، أو خيرًا للإسلام، فإذا اتَّصَل عالمٌ بإنسان له قيمة، وشأنهُ لِصَالِحِ المسلمين، فهذا عملٌ صالح، واللهُ تعالى يتولَّى السرائر .
 كما قال أبو حنيفة لما عاتبَهُ المنصور، وقد اجتمع به في أحد دور وُجهاء بغداد، قال له: ((يا أبا حنيفة لو تغشَّيتنا، فقال أبو حنيفة: ولِمَ أتغشَّاكم، وليس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه، وهل يتغشَّاكم إلا من خافكم على شيء؟ قال له: يا أبا حعفر, إنَّك إن قرَّبتني فتَنْتني، وإنّك إن أبْعدتني أزْريْتني، وأنا أُمثّل الإسلام)) .

عطاء بن أبي رباح يدخل مجلس الخليفة هشام بن عبد الملك من أجل ماذا ؟

 قال عثمان بنُ عطاء الخرساني: ((انْطلقْتُ مع أبي نريدُ هِشام بن عبد الملك، فلمَّا غدونا قريبًا من دمشق، إذا نحن بِشَيخٍ على حِمار أسْوَد، عليه قميص صفيق، وجبَّة، وقلنْسُوة لاصقة بِرَأسه، وركابه من خشب، فضَحِكْتُ منه، وقلتُ لأبي: مَن هذا؟! قال: اُسْكُتْ, هذا سيّد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح .
 فلمَّا قرُبَ مِنَّا نزلَ أبي عن بغْلتِهِ، ونزلَ هو عن حِمارِهِ، فاعْتنقَا، وتساءلاَ، ثمَّ عادا فَرَكِبَا، وانْطلقَا حتَّى وقفَا على باب قصْر هِشام بن عبد الملك، فلمَّا اسْتقرَّ بهما الجلوس حتى أُذِنَ لهما، فلمَّا خرج أبي قلتُ له: حدِّثْني بما كان منكما؟ فقال: بادرَ فأذِنَ له، وواللهِ ما دخلْت إلا بِسَبَبِهِ ، فلمَّا رآهُ هشام رحَّبَ به، وقال: مرْحبًا مرْحبًا، ها هُنا ها هُنا، أي تعال إلى جنبي، ولا زال يقول له: ها هُنا, هَا هُنا حتَّى أجْلسَهُ معهُ على سريرهِ, وإلى جانبِهِ تمامًا، ومسَّتْ ركْبتَهُ ركْبته، وكان في المجْلس أشراف الناس، وكانوا يتحدَّثون فسَكَتُوا .
 ثمّ أقْبلَ عليه هشام, فقال: ما حاجتُكَ يا أبا محمَّد؟ قال: يا أمير المؤمنين، أهل الحرمين ، أهل الله، وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلّم تُقسِّم عليهم أرزاقهم، وأُعْطِياتهم، قال: نعم، يا غلام, اُكْتُب لأهل مكَّة والمدينة بِعَطاياهِم وأرزاقِهِم إلى سنة، ثمّ قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ فقال: نعم, يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز، وأهل مجْدٍ أصْلُ العَرَب، وقادة الإسلام ترُدّ فيهم فُضول صدقاتهم، أيْ إذا جنَيت الصدقات منهم، الفضول أَبْقِها في بلادهم، فقال: نعم، يا غلام اُكْتُبْ بِأنْ تُردَّ فيهم فُضول صدقاتهم، قال: هل من حاجة غير ذلك يا أبا محمّد؟ قال: نعم, يا أمير المؤمنين، أهل الثُّغور يقفون في وُجوه عدُوّكم، ويقتلون من رام المسلمين بِشَرّ، تُجْري عليهم أرزاقًا تدرّها عليهم، هم بِحاجة إلى مساعدة، وهم إنْ هلَكوا ضاعت الثّغور، قال: نعم، يا غلام اُكْتب بِحَمْل أرزاقهم إليهم، هل من حاجةٍ غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين أهل ذِمَّتكم لا يُكلَّفون ما لا يُطيقون، فإنَّما تَجْبون منهم مَعونةٌ لكم على عدوّكم، أيْ لا تُكلِّفوا أهل الذمَّة ما لا يُطيقون، قال: يا غلام، اُكتبْ لأهْل الذمَّة ألاَّ يُكلَّفوا ما لا يطيقون، قال: هل من حاجةٍ غيرها يا أبا محمّد؟ قال: نعم، اتَّقِ الله في نفْسِكَ يا أمير المؤمنين، واعْلَم أنَّكَ خُلِقْت وحْدك، وسوف تموت وحْدك، وتُحْشرُ وحدك، وتُحاسَبُ وحْدك، ولا واللهِ ما معك أحدٌ مِمَّن ترى أمامك، حينما تموت، وحينما تُحشَر، وحينما تُحاسب .
 فأكَبَّ هِشامٌ ينْكت في الأرض وهو يبْكي, فقام عطاءٌ فَقُمْتُ معه، فلمَّا صِرْنا عند الباب إذا رجُلٌ قدْ تَبِعَهُ بِكِيسٍ لا أدري ما فيه، وقال له: إنَّ أمير المؤمنين بعَثَ لك بِهذا، فقال: هيْهات، وما أسألكم عليه من أجْرٍ إنْ أجريَ إلا على ربّ العالمين, فو الله إنَّهُ دخل على الخليفة، وخرج من عنده، ولم يشْرب قطْرةَ ماء)) .
 يمْكن أن تدخل على الخليفة، فإذا كانت لك مكانةٌ عندهُ، واطْلُب منه تَلْبِيَة حاجات المسلمين من دون طلب حاجات شخْصِيَّة .

كم عمر من الدنيا, وبماذا ملأ حياته التي عاشها في الدنيا ؟

 عُمِّرَ عطاء بن أبي رباح حتى بلغَ مئة عامٍ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا, قَالَ:

((يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَنْ خَيْرُ النَّاسِ, قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

 لا يوجد أجْمل من عمْرٍ طويل في طاعة الله، ولا يوجد أصْعب من عمْرٍ طويل في معصِيَة الله، قال تعالى:

﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾

[ سورة النحل الآية: 70]

 أخواننا الشباب، أنتم بِطَاعتكم لله، وفي سِنّ شبابكم، يُدَّخَر لكم، وأنتم لا تشعرون، شَيْخوخة من أرْوع فترات العُمْر، لأنَّهُ مَن حفِظَ نفسهُ صغيرًا حفظها الله له كبيرًا، ومن تعلَّمَ القرآن في شبابه متَّعَهُ الله حتى يموت .
 أقول لكم وهذه بِشَارة من رسول الله: إنّ الشابّ إذا أقْبَلَ على طلب العلْم، وامْتلأتْ جوانحه بِحُبّ الله ورسوله، وضبطَ جوارحهُ وسلوكه بالكتاب والسنة، فهذا الشابّ له خريف عُمُرٍ يتمنَّاهُ الإنسان تَمَنِّيًا، وقد لا يصِلُهُ، وكنت قد حدَّثكم أنَّ رجلاً بدأ بِتَعليم أولاد المسلمين في الثامنة عشرة من عُمُره، وامْتدَّ به العمر حتى الثامنة والتِّسْعين، وكان إذا رأى شابًّا في الطريق يقول له : يا بنيّ, أنت كنت تلميذي قبل أعوام، وكان أبوك تلميذي، وكان جدّك تلميذي, وكان منتصِبَ القامة، وحادّ البصر، مرهفَ السَّمع, أسنانُهُ في فمِهِ، وذاكرتُهُ قَوِيَّة، فكان إذا قيل لهُ: يا سيِّدي, ما هذا؟ يقول: يا بنيّ، حفظناها في الصِّغر، فحَفِظَها الله علينا في الكِبَر، من عاش تقِيًّا عاش قوِيًّا .
 عاش عطاء بن أبي رباح حتى بلغ مئة عام، ملأ حياته بالعلم والعمل، وأتْرعها بالبرّ والتقوى، وزكَّاها بالزُّهْد بما في أيدي الناس، والرغبة بما عند الله، وللهِ درُّ القائل حين قال:

لا تسْألنَّ بُنَيّ آدم حاجــةً   وسَل الذي أبوابهُ لا تُغلــقُ
الله يغضبُ إن تركْت سؤالهُ  وبنيّ آدم حينما يُسأل يغضبُ

 الحسن البصري سُئلَ بما نِلْتَ هذا المقام؟ قال: باسْتغنائي عن دنيا الناس, وحاجتهم إلى علْمي، فلا يليق بالعالم إلا أن يستغني عن دنيا الناس، وأن يحتاج الناس إلى علْمِهِ، أما إذا زهِد الناس في علمِهِ، واحتاج هو إلى دنياهم فالوَيْل له، وسقط حينئذٍ من أعْيُن الناس، فإذا أتاه اليقين وجدهُ الموتُ خفيف الحِمْل من أثقال الدنيا، وكثيرَ الزاد من عمل الآخرة، ومعه فوق ذلك سبعون حجَّةً، ووقفَ خلالها سبعين مرَّة على عرفة .

 

خلاصة الدرس :

 هذا تابعي من التابعين، عَبْدٌ أسْود، وحبشي، وقف أمامه أمير المؤمنين ذليلاً، قال له:

((يا بنيّ، هل رأيْت ذلَّنا بين يديه؟))

 تعلَّموا العلمَ، فإنْ كنتم سادةً فُقْتُم، وإن كنتم وسطًا سُدْتم، وإن كنتم سوقةً عِشْتم، ورتبة العلم أعلى الرتب، والعلم لا يُعْطيك بعضَهُ إلا إذا أعْطيتهُ كلَّكَ، فإذا أعْطيتهُ بعْضكَ لم يعْطِكَ شيئًا .
 أُقدِّم لكم مِقْياسًا دقيقًا، ابْحث عن صديق من سنِّك لم يطلب العلم، واجْلِس معه نصف ساعة, واسْتَمِع إلى كلامه تجده سخيفًا، ومزْحَهُ رخيصًا، ونظراته غير منضبطة، ولسانه غير مهذَّب، وتعليمات سخيفة، وآراءه غير صحيحة، فهل هناك فرق بين مَن يطلب العلم وينضبطُ عملهُ بالعلم، وبين من يتفلتُ من العلم؟ فالثاني كالدابة الهائمة على وجهها .
 عطاء بن أبي رباح نظَّمَ وقْتهُ حينما كان عبْدًا ممْلوكًا لامرأةٍ من قريش، فكان ثلث وقتهِ لخِدْمةِ سيِّدته، والثلُث الثاني لأداء عباداته، والثلث الثالث لطلب العلم، ولا تظن أنَّك في سَاعة بالأسبوع تتعلّم منها سير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وفي سَاعةٍ أخرى تتعلَّم فيها السنَّة الشريفة، وفي سَاعة ثالثة تتعلَّم كتاب الله، إنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور